ــ1ــ
الدكتور محمد البرادعى، فى الأسابيع الماضية، أحدثت دعوتك للإصلاح الدستورى والسياسى وانتخابات رئاسية نزيهة زخما إعلاميا حقيقيا وقاربت بينك وبين المواطنين المصريين المهتمين بالشأن العام والراغبين فى رؤية مصر ديمقراطية ومتقدمة وعادلة. يضع هذا على عاتقك مسئولية كبيرة لجهة تذكير المواطنين بحقيقة تاريخية ثابتة عادة ما ينزعون لتجاهلها، ألا وهى كون التحول الديمقراطى فى النظم السلطوية لا يتأتى تلقائيا بمجرد التفاف قطاع واسع من المواطنين حول قيادة وطنية مستقلة تنادى به، بل يحتاج إلى مطالبة شعبية مستمرة ومشاركة فعالة من قبل المواطنين أولى خطواتها الاحتجاج والتظاهر السلمى ضد ممارسات النظم السلطوية وثانيها الالتزام بالمشاركة فى الانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة.
ادعوهم يا دكتور على سبيل المثال إلى استخراج البطاقات الانتخابية، وحثهم على التغلب على تراث الشك الطويل فى نزاهة الانتخابات ونتائجها، الذى راكمه المصريون عبر العقود الماضية بالذهاب إلى مراكز الاقتراع حين يأتى فى العام الحالى موعد انتخابات التجديد النصفى لمجلس الشورى متبوعة بانتخابات مجلس الشعب. فالأمر المؤكد هو أن قدرة النظم السلطوية على تزوير الانتخابات والتلاعب بنتائجها وممارسة القمع ضد مرشحى المعارضة والمراقبين تتراجع إلى حد معتبر، كلما ارتفعت نسبة المشاركة الشعبية وإقبال المواطنين على التصويت.
ذكرهم بواجباتهم ومسئولياتهم وبأن مصر لن تتقدم مجتمعيا أو تتغير سياسيا باتجاه الديمقراطية سوى بمطالباتهم الفعالة وصبرهم على تحديات ومخاطر العمل العام، ومن بينها احتمالية التعرض لقمع الأجهزة الأمنية. لا تدعهم ينظرون إليك كبطل منقذ قدم من «الخارج» لإنجاز الديمقراطية بعلاجات سحرية سريعة لا تكلفهم الكثير إن فرديا أو جماعيا. فأنت تعلم أن واقعك وواقعنا ليس كذلك، وأن التحول الديمقراطى ــ هذا إن اقتربنا منه ــ لن يتم فى برهة من الزمان وأن كلفته حتما ستكون باهظة فى دولة ومجتمع يفتقداه منذ عقود طويلة. ثم إننا فى مصر خبرنا ــ قبل غيرنا من مجتمعات بلاد العرب ــ كارثية حصاد الأبطال المنقذين، على الرغم من نواياهم ورغباتهم الطيبة، إن هم أقصوا المواطنين عن ساحات المشاركة والبحث الجماعى عن الصالح العام.
ــ2ــ
بإيجابية وانفتاح أيضا تفاعل معك العديد من أحزاب وحركات المعارضة، وتعالت العديد من الأصوات المطالبة بدعم فرصك فى الترشح للانتخابات الرئاسية 2011 وبقيادتك لجبهة موحدة للمعارضة فى مواجهة النظام الحاكم. إلا أن إيجابية المعارضة هذه وانفتاحها على طرحك، ينبغى ألا ينسياك ضعفها وهشاشتها الشديدة، وما يترتب عليهما من معضلات وقيود. فالمعارضة الحزبية باختلاف أطيافها تغيب عنها القواعد الشعبية الحقيقة ولا تملك فى المجمل تصورات محددة لكيفية الدفع نحو التحول الديمقراطى، بل استكان البعض منها لعلاقة تبادلية مع النظام الحاكم يؤمن له بمقتضاها شىء من الوجود السياسى شريطة التوقف عن ممارسة المعارضة الجدية ضد النظام ورموزه وسياساته. أما المعارضة غير الحزبية، فشقها الإخوانى مأزوم، ويعانى اليوم من غياب بوصلة إستراتيجية واضحة لفعله السياسى، فى حين تهاوى شقها المرتبط بتحالفات التغيير والإصلاح العابرة للحواجز الأيديولوجية ككفاية (أو ما بقى منها) وغيرها إلى كيانات غير مؤثرة تختزل ذواتها فى صراعات داخلية وأحاديث صحفية.
بعبارة بديلة، لا تستطيع المعارضة الحزبية وغير الحزبية أن تقدم إليك الكثير من الدعم السياسى أو المساندة الجماهيرية على الأرض، فهى تفتقد لكليهما. بل واقع الأمر أن شيئا من إيجابية المعارضة فى تعاطيها معك ينبغى أن يفسر بعميق احتياجها لشخصية وطنية مستقلة ذات مصداقية داخلية وخارجية قد تساعدها على جذب قطاعات شعبية واسعة للالتفاف حول أجندة للتغيير والإصلاح الديمقراطى، وهو ما أخفقت المعارضة فى إنجازه طوال الأعوام الماضية.
ظنى أن المطلوب منك إذا، بجانب الابتعاد الحذر عن الصراعات والتنازعات البينية للمعارضة الحزبية وغير الحزبية، هو دعوة المعارضة لأن تنشط لجهة تطوير قواعدها الشعبية وصياغة برامج سياسات واضحة المعالم تهدف لدفع مصر نحو الديمقراطية والتقدم. فى مقال سابق، طالبت المعارضة والمواطنين المهتمين بالشأن العام بتذكيرك بأولوية التركيز على تطوير برنامج محدد لدورك السياسى والابتعاد عن عموميات حديث الديمقراطية الرائج ببر مصر منذ أعوام دون نتائج يعتد بها، وبهذا سأذكرك بعد أسطر قليلة. واليوم، أدعوك إلى مطالبة الملتفين حولك من أحزاب وحركات المعارضة بالعمل الجاد على الخروج من لا فعاليتهم الحاضرة واستعادة ذاكرة العمل التنظيمى (الكوادر الحزبية والحركية) والنشاط الجماهيرى (القواعد الشعبية) أملا فى تحويل الزخم الإعلامى، الذى حققته أنت إلى زخم سياسى ومجتمعى يضغط على النظام الحاكم لضمان إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية نزيهة فى العامين الحالى والقادم وتغيير قواعد اللعبة السياسية فى مصر بدفعها نحو ديمقراطية تنافسية، وتلك لا وجود لها بدون أحزاب قوية وفعالة.
سل أحزاب المعارضة يا دكتور عن المتوسط العمرى للقيادات والأعضاء، عن معدلات انضمام أعضاء جدد خلال الأعوام الماضية (وهى تقترب من الصفر)، سلهم عن الديمقراطية الداخلية وتصعيد الشباب، عن وجودهم التنظيمى خارج المناطق الحضرية ومؤتمراتهم الجماهيرية (الممكنة بالرغم من قانون الطوارئ). وواجه الحركات غير الحزبية بحقيقة ضعفها الشديد وبدائية الوعى السياسى لبعض أطرافها، التى ما برحت تخون الآخرين وتطالبك بتحديد موقفك من إسرائيل وكامب ديفيد ومعاهدة السلام المصرية ــ الإسرائيلية كشرط للتعامل معك وتأييدك فى حين تتجاهل بصورة شبه كاملة الشروع فى حوار معك حول برنامجك السياسى والاقتصادى والاجتماعى لمصر، وكأن هموم الوطن يمكن اختزالها فى العلاقة مع إسرائيل والموقف من القضية الفلسطينية على أهميتهما.
ــ3ــ
الفاضل الدكتور البرادعى، وبغض النظر عن تحفظى على رؤيتك القاضية بتحقيق الإصلاح الدستورى والسياسى كشرط مسبق لترشحك فى الانتخابات الرئاسية وممارستك لدورك السياسى، أصبت بحديثك عن أهلية مصر للديمقراطية والتقدم وحق شعبها فى حياة كريمة وترا حقيقيا لدى قطاعات واسعة من المواطنين المصريين المهتمين بالشأن العام ونجحت فى جذب العديد من المثقفين والنشطاء للالتفاف حول دعوتك.
إلا أننى أحسب أنك اليوم مطالب بتطوير خطابك السياسى وفعلك العام باتجاهين إضافيين لا غنى عنهما، إن أنت أردت البناء على الزخم الذى تحقق ونقله نوعيا إلى مستويات جديدة.
الاتجاه الأول هو استثمار ما يكفى من الجهد والوقت لصياغة رؤية برامجية واضحة تتجاوز بها عمومية حديث الأسابيع الماضية ثم تترجم من خلالها أهداف الإصلاح الدستورى والسياسى وفكرة المرحلة الانتقالية، التى شددت عليها إلى إجراءات وسياسات قابلة للتنفيذ وتتناول بواقعية مجموعة الشروط الداخلية (وفى مقدمتها البحث عن حلفاء إصلاحيين داخل النظام الحاكم ومؤسسات الدولة وتفعيل العمل التنظيمى والجماهيرى للمعارضة) والخارجية (وربما كان أهمها التأكيد على استقرار تحالفات مصر الإقليمية والدولية بغض النظر عن تطورات حياتها السياسية) اللازم توافرها لدفع مصر نحو التحول الديمقراطى.
أما الاتجاه الثانى الذى أظن أن على فعلك العام أن يذهب باتجاهه فهو، وبصراحة شديدة، العمل على التخلص من وصمتى «الزائر الغريب» و«الغريب العابر»، التى يعمل إعلام النظام الحاكم على إلصاقهما بك بإشارات متواترة إلى ابتعادك عن مصر خلال الأعوام الماضية وعدم اضطلاعك بمهام مهنية داخل مؤسساتها منذ فترة ليست بالقصيرة. وقناعتى أن هذا لن يتأتى سوى بعودتك للحياة بمصر والتحرك المكثف بين مدنها وقراها وعشوائياتها للإلمام بحقائق المجتمع والسياسة اليوم.